النصرانية بين التحريف والتخلف العلمي
|
منقول
|
النصرانية هي دين النصارى الَّذين يزعمون أنَّهم يتَّبعون المسيح - عليه السلام - وكتابهم الإنْجيل. وقد أُطْلِق على أتباع الدِّيانة النصرانية في القرآن الكريم نصارى، وأهل الكتاب، وأهْل الإنجيل، وهم يسمُّون أنفسهم بالمسيحيِّين؛ نسْبةً إلى المسيح - عليه السلام - وهي تسْمية لا تتوافق مع واقع النصارى؛ لتحريفهم دين المسيح - عليه السلام. فالحقُّ والصواب أن يُطْلَق عليهم نصارى، لأنَّ في نسبتهم إلى المسيح - عليه السلام - خطأً فاحشًا؛ إذْ يلزم من ذلك عزْوُ ذلك الكفْر والانحراف إلى المسيح - عليه السلام - وهو منه بَرِيء[1]. بعد أن رُفع عيسى - عليه السلام - لم يَستطع النصارى الجهْر بدعوتهم، واقْتصر عمَلُهم على الدعوة السرِّية خوفًا من الدولة الرومانية الوثَنيَّة التي كانت تُنْزل بهم ألوان التعذيب؛ خوفًا على ملكها، وهذا النَّشاط بالدعوة السرِّية لم يؤتِ أُكُله كما أَمَل النصارى، فلقد طرأ كثير من التَّحريف والتغيير على العقيدة الصحيحة التي أنزلَها الله - تعالى - على نبيِّه عيسى - عليه السلام - لتُخرج كثيرًا من العقائد المنْحرفة، التي نتَجَت منها عباداتٌ وطقُوس محرَّفة ووضْعية في ذات الوقْت، كعقيدة التثليث، والعبادات الغريبة، فسَّرها النصارى بأنَّ لها أسرارًا مقدَّسة، وأحكامًا تشريعيَّة، مَنْشؤُها البابَوِيَّة، تحرِّم وتحلِّل دون مستَنَد، فهي إجمالاً عقائدُ محرَّفة مِن صُنْع رجال الكنيسة بمختَلِف أوصافهم: باباوات، شرَّاح أناجيل، كرادلة، أو مجامع مقدَّسة، فقد قدس الناس أقوالهم، وجعلوها مرجعًا ثابتًا. وقد أسْهَم في هذا التَّحريف الكبير اعتناقُ الإمبراطور قسطنطين للنَّصرانية، ومِن ثَمَّ فرَضَها على الإمبراطورية بشكْل مغايِر عما عرفه النصارى، وإنْ كان في اعتناقه النصرانيةَ راحةٌ كبيرة لهم؛ إذْ كانوا مضْطَهدين من قَبل اعتناقه لها، في القرون الثلاثة الأُولى من بعد ميلاد المسيح عيسى - عليه السلام - بدءًا بعهْد الإمبراطور الروماني "ثيرون" سنة 54 إلى 68، والذي اتَّهمهم بحرْق مدينة روما، فتفنَّن في تعذيبهم وقتلهم بشكل جماعي، ثم تبعه عهد الإمبراطور "تراجان" من سنة 98 إلى سنة 117، والذي كان يُعْدِم كلَّ من يكتشف نصْرانيَّته، وتبعه عهد الإمبراطور "ديكوس" من سنة 249 إلى سنة 251، وقد أظهر اضطهادًا عامًّا ضدَّ النصرانيين. وأخيرًا في عهد الإمبراطور "دقلديانوس" من سنة 284 إلى سنة 305م، فاعتناق قسطنطين للنصرانية أراحهم، إلا أنَّ اعْتناقه لها ليس حبًّا فيها واعتقادًا بصحَّتها بقدْر ما هو مصلحة سياسيَّة تتمثَّل في إنْهاء الخلافات بين النصارى والوثنيين. وهم بهذا - أي: النصارى - وإن قَوِيت شوكتُهم باعتناق قسطنطين النصرانيَّة، إلا أنَّهم لم يستطيعوا تصفيتها من شوائب الوثنية، بل - ومع مرور الوقت - أصْبحت مُخْتلطة مع ما يَعتقدون، ولم يبذلوا مَزِيد جهْد في تنقيتها؛ إِذِ اختلطت بالوثنية، وأستطيع أن أسمِّي ذلك الخلط بـ "النصرانية الوثنية". بل إنَّ نصرانيتهم التي كانوا يعتقدون صحَّتها هي الأُخْرى لَحِقَها التحريف بفعْل اضْطهاد اليهود لهم قَبْل الوثنيِّين، لكنَّ التحريف هنا اتَّسع باختلاط الوثنية بالنصرانية بشكْل أكبر، حتى استقرَّت العقيدة النصرانية الرسميَّة المؤيَّدة من الكنائس الغربية والشرقية على فكْرة التَّثليث التي اجتهد اليهود لِزَجِّها في الدين النصراني، ومثلها عقيدة الصَّلْب والفداء، وتحريفات أخرى دخَلَت في أحكامها وتطبيقاتها، منها ما كان مكْرًا ودسائِسَ من أعداء النصرانية لإِفْسادها، ومنها ما كان من قِبَل النصارى أنفسهم، لأهواء شخصية، واستجابة لضغوط زعمائهم وملوكهم. وكان مِن أبرز مَن سعى جاهدًا لإفساد النصرانية، وأدخل عليها ما ليس منها - "بولس" اليهودي، وهو صاحب الشأن العظيم في تحريف أصول الدِّيانة النصرانية التي أنْزلها الله - تعالى - على عيسى - عليه السلام - فقد كان هذا الرجل يهوديًّا طرطوسيًّا من الفَريسيِّين، وكان اسمه "شاؤول"، وعلى الرغم من أنه أدْرك زمن عيسى - عليه السلام - إلاَّ أنَّه لم يرَه ولم يسمع كلامه. وقد كان قَبْل اعتناقه للنَّصْرانية من أكْبر المُعادِين للنصرانية، بل أنزل بأتْباعها ألوان العذاب، وبَعْد رفْعِ عيسى - عليه السلام - أعلن دخوله المفاجِئَ فيها، وادَّعى أنَّ عيسى - عليه السلامُ - هبط عليه عندما كان قادمًا من دمشق وقريبًا منها، وقال له: لماذا تضطهدني؟ فقال (بولس = شاؤول) وهو مرتعد متحير: يا رب، ماذا تريد أن أفْعل؟ فقال له: قم، وادْخل المدينة، فيُقال لك ماذا يَنبغي أن تفعل. وبعد أن قاده رِفَاقه إلى دمشق، واستقر فيها، أتاه "حنانيا"، وكان هذا رجلاً مشهودًا له بالتَّقوى من جَميع السُّكان اليهود، كما يَذكر" بولس" فأخبَره بأنَّ الله قد اخْتاره ليعلِّم الدِّين، ويَكْرِز بالمسيحية، أيْ: يَعِظ بها ويدعو إليها[2]. ثم نشط بعد ذلك في النصرانية وصار المعلِّمَ الأوَّل، واتَّخذ من هذه الحيلة ستارًا لإخفاء حقيقة أنَّه لم يلتَقِ بعيسى - عليه السلام - ولم يتَلَقَّ العلم منه. وأصبح من رسُل التَّبشير بالنصرانية السبعين عند النصارى، وأصبح معلِّمًا لِكتَّاب الأناجيل "مرقس" و"لوقا"، وكان الأخيرُ التلميذَ المحبَّب والمقرَّب لبولس. ومن أهم العقائد المحرَّفة التي أدخلها إلى النصرانية: ادِّعاؤه أنَّ عيسى - عليه السلام - ابنُ الله، وأنَّه إله، وهو أمر لم يكن معروفًا لدى النصارى، وظلَّ يحرِّف ويشرع في الدِّين النصراني حتى مات سنة (66 أو 67م)، بعد أن انْطَلَت حِيلتُه على بعض النصارى، لكنَّ الأكثرية كانوا موحِّدين يؤْمِنون بأنَّ عيسى - عليه السلام - عبدُ الله ورسوله. وقد تفرَّقت النصرانية إلى فِرَق متعدِّدة مختلفة في الرأي، كما في حديث عوف بن مالك قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((افترقَت اليهودُ على إحدى وسبعين فرْقة، فواحدة في الجنة، وسبعون في النار، وافترقت النَّصارى على ثِنْتين وسبعين فرقة، فإحدى وسبعون في النار، وواحدة في الجنة، والذي نفْسُ محمَّد بيده، لتفترِقَنَّ أمَّتِي على ثلاث وسبعين فرقة، واحدة في الجنة، وثنتان وسبعون في النار))، قيل: يا رسول الله، مَن هم؟ قال: ((الجماعة)). فهم في العهد القديم: 1- الموحِّدون: وهم أتْباع "آريوس" الذي كان يقول بأنَّ الأبَ وحْدَه هو الله، والابن مَخْلوق له. 2- النسطوريون: وهم أصحاب "نسطور" بطريرك الإسكندرية سنة 431م الذي قال: إنَّ مريم لم تَلِد إلاَّ الإنسان، فهي بذلك أمُّ الإنسان، وليست أمًّا للإله، ومذهب النساطرة وضع الأساس للقول بطبيعتين في المسيح؛ أي: القول بالحلول. 3- اليعاقبة: وهم يقولون بأنَّ لِلمسيح طبيعةً واحدة، وهي التقاء اللاَّهوت بالنَّاسوت؛ أي: القول بالاتِّحاد[3]. وهناك فِرَق أخرى غير ما ذُكِر. أما أكبر فِرَقهم اليوم فهي الفِرَق الآتية: 1- الكاثوليك: وهم أتباع الكنيسة الكاثوليكية العامة، وهي أعرق وأكْبر الطوائف النصرانية، ومرْكزها في روما، وجُمهورها في أوربا عمومًا، وهم يعتقدون - بزعمهم - أنَّ الله الابنَ مُساوٍ في خصائص الألوهية لله الأب، ورُوحَ القُدُس منبَثِقٌ عنهما[4]. 2- الأرثوذكس: وهم أتباع الكنيسة الأرثوذكسية، وهي كنيسة الرُّوم الشرقية، ومركزها قديمًا القسْطَنطينيَّة، وأكثر أتْباعها من شمال وغرب آسيا، وشرق أوربا. 3- البروتستانت: أو الإصلاح الكنيسي: وهم أتباع الكنيسة البروتستانتيَّة التي أسَّسَها الألماني "مارتن لوثر" في القرن السادس عشر الميلادي، ويَعتقد أتباعها أنَّ الله الأب أفْضلُ من الله الابن، وأنَّ رُوح القدس انبثقت عن الله الأب[5]. والجدير بالذِّكر أنَّ حاكِمَهم "قسطنطين" لَمَّا رأى أنَّ كثْرة خلافاتهم وصراعاتهم المذْهبية باتت في الازْدياد - تدَخَّل؛ كي يَعْتمد مذهب إحدى طوائفهم، فدعا إلى مَجْمع كنسي مسكوني في نقية سنة (325م)، فعُرِف هذا المَجْمعُ بِمَجمع نقية. وقد خرَجوا من هذا المجمع بتقرير ألُوهية المسيح - عليه السلام - وأنَّه ابنُ الله - في زعْمهم، تَعالى الله عن قولهم - كما قرَّروا أنَّ هذا الإله تجَسَّد في صورة البشر؛ لِخَلاص الناس ثم ارتفع إلى السماء، كما تَمَّ لعْنُ "آريوس" من أحَدِ أسَاقفة النصارى الذين اشْتدَّ خلافهم معه، ولا سيَّما أسْقُف كنيسة الإسكندرية "إلكسندروس"؛ مما دعا الأخير إلى عَقْد مجمع في الإسكندرية قبل "نقية"؛ للحَسْم في شأن "آريوس"، فتقرَّر قطْعُه من الخدمة، وتم تأكيد هذا العزل في "نقية" بلعْنه وحرق كتبه. وقيل: إنَّ كثيرًا من الأساقفة وقَّع على هذه القرارات؛ لِمُناصرة "قسطنطين"، والبعض الآخَر لم يوقِّع، بينما يرى البعض أنَّ جميع الأساقفة وقَّعوا وارْتضوا هذه القرارات عدا "يوسابيوس" أسْقُف "نيقوميديه" وشخصٍ آخَر لم يوقِّعا[6]. لكنَّ هذا القرار القائل بألوهيَّة المسيح - عليه السلام - لما كان بفرْض السلطان فإنَّ "قسطنطين" بنفسه رجع عن هذا الرأي، وأمَر بِعَقْد مجمع "صور" سنة 334م، وقرَّر فيه إعادة "آريوس" إلى الكنيسة، وهو الذي لا يرَى ألوهية المسيح، وخلع أسقفَّ الإسكندرية، ومات في آخر حياته على مذهب "آريوس". فيتَّضح من هذا المجمع "نيقية" مدى التَّحريف الذي لَحِق الدِّين النصراني، وأنَّه أصبح ألعوبة الأهواء والآراء الشخصية غير المستَنِدة إلى نَصٍّ صحيح. ثم توالت المجامع بعد ذلك؛ ممَّا يدل دلالة واضحة على أنَّ النصارى ما زالوا متفرِّقين، لا يَجْمعهم رأْيٌ ولا دِينٌ صحيح غير التحريف والخرافة التي تبْنَى على خرافة قبلها! وكلُّ مجمعاتهم تخرج بقرارات جديدة، وهي كالتالي: • مجمع "القسطنطينية "حيث دعا الإمبراطور "ثيودسيوس" سنة 381 إلى عقْد المجمع لمواجهة دعوات كانت تنتشر بين الكنائس منها: • دعوة "مقدونيوس" الذي كان أسقفًّا للقسطنطينية؛ حيث نادى بأنَّ الرُّوح القُدس مَخْلوق وليس إلهًا. • دعوة "صابيلوس" الذي كان يُنكِر وجود ثلاثة أقانيم. • دعوة "أبوليناريوس" الذي أنكر وجود نفْسٍ بشرية في المسيح - عليه السلام. فحضر للمجمع 150 أسقفًّا قرَّروا فيه ألُوهية الرُّوح القدس، ولعن وطرد من خالف ذلك، فاكتمل بذلك ثالوثُ النصارى [7]. وعقبه مَجْمع "أفسس" سنة 431م، حيثُ انْعقد هذا المَجْمع لمواجهة قول "نسْطور" أسقفِّ القسطنطينيَّة الذي كان يَقول بأنَّ المسيح له طَبِيعتان: إلهيَّة، وإنسانية بشريَّة[8]، وأنَّ مرْيم - عليها السلام - ليست والِدَتَه. فقرَّر المَجْمع أنَّ المسيح إله وإنسان ذُو طبيعة واحدة و"أقنوم" واحد، وأنَّ مريم أمُّ إلهِهم، وحكم على "نسطور" بالطَّرْد من الكنيسة[9]. تلاَه مَجمع "خلقيدونية" سنة 451م، إذْ عادوا في هذا المَجمع للبحث عن طبيعة المسيح - عليه السَّلام - وقالوا: إنَّ له طبيعتين؛ إلهيَّة وبشرية، بلا اختلاط ولا تحوُّل ولا انقسام[10]، والذين ناصروا هذا القول هم الأساقفة الغربيُّون الذين لَعَنوا وطرَدوا مَن لا يقول بهذا القول، ولم توافِقْهم الكنائس الشرقية، وبَقُوا على رَأْيهم في مَجْمع "أفسس". تلاَه أيضًا المجمع السَّابع: وهو عبارة عن مَجْمعين، انْعقد الأوَّل سنة 754 بدعْوة من الإمبراطور "قسطنطين"، وتقرَّر فيه لَعْن كلِّ من يصوِّر المسيح أو أمَّه أو آباءَ الكنيسة باعْتبار أنَّها وثنيَّة[11]، وبعد وفاة "قسطنطين" سنة 775م - تولَّت الإمبراطوريةَ زوجتُه "إيرني"، فدعَتْ إلى مجمع عام 787 في "نقية" حضرَه 350 أسقفًّا خرجوا بِقَرار وجوب تعليق الصُّور والتماثيل للمسيح وأمِّه - عليهما السلام - وقدِّيسهم، وكذلك الملائكة، ويسجد لهم ويكرمون، وتم لعْنُ كلِّ مَن لا يكرم الصور والتماثيل. عَقِبه المَجمع الثَّامن سنة 869م، وكان سببُ انْعقاده الخِلافَ بين كنيسة القسطنطينية وكنيسة روما في الرُّوح القدس؛ هل انبثق من الأب فقط - وهذا زعْم كنيسة القسطنطينيَّة - أوْ من الأب والابن معًا - كما هو زعْم كنيسة روما؟ فقرَّروا أن المسيح انْبثق من الأب والابن معًا، ولم يُوَافق على ذلك بطريرك القسطنطينيَّة ومَن كان معه، وأصَرُّوا على قولهم، وعقدوا لذلك مَجمعًا سنة 879م قرَّروا فيه أنَّ الروح القدس انبثق من الأب وحْده[12]. فانقسمت بسببه الكنيسةُ إلى قسْمين: 1- الكنيسة الغربيَّة، ويتزعَّمها البابا في روما، وهم الكاثوليك. 2- الكنيسة الشرقية، ويتزعمها بطريرك القسْطَنطينيَّة، وهم الأرثوذكس. كذلك تلاه المجمع الثاني عشر الذي عُقِد سنة 1215م، وقد تقرَّر فيه أنَّ العشاء الرباني يتحوَّل إلى جسد ودم المسيح، وأنَّ الكنيسة البابَوِيَّة الكاثوليكية تملك حق الغفران، وتمنحه لمن تشاء. وأخيرًا عُقِد مجمع روما عام 1769م، والذي تقرَّر فيه عصمة البابا في روما[13]. فالنصرانية بشكل عامٍّ حُرِّفت، وتبدَّلت فيها الكثيرُ من الأمور مجامَلةً للرُّومان، مثل: الطلاق، وتعدُّد الزوجات، والختان، والصوم، وغيرها من الأمور التي كانت معروفة حتَّى في اليهودية. وبالتالي فإنَّنا نَخْلص من ذلك إلى: • أنَّ الكنيسة دخلَتْ عليها كثير من المفاسد فغيَّرتْها عمَّا كانت عليه بعد رَفْع عيسى - عليه السلام - منْها عوامل قهرية كالتَّعذيب الذي وقَع على النَّصارى من قِبَل اليهود والرومان، ومنها عوامل ذاتيَّة رغْبة في التَّحريف لمطامِعَ سياسيَّة؛ ممَّا يؤكِّد أنَّ النَّصرانية محرَّفة، ولا يدع مجالاً للشَّك، وبالتَّالي، فهي صنعة بشريَّة بحتة. • أنَّ المجامع التي كانت تقام لم تكن تُبْطِل من الدَّعاوى الدَّخِيلة وتعود للأصْل، بل كانت مَجامع لفرْض الآراء الجديدة الَّتي لا يتَّفق أصحابُها عليها، وأخرجَتْهم شِيَعًا متفرِّقين متنافرين. • أنَّ المجامع هي المشرع الحقيقي للنَّصرانية المحرَّفة؛ لأنَّها لم تكن تَقُوم على نصوص صحيحة ثابتة، بل هي أقوال من عند أنفسهم جعَلوا منها شِرْعةً ومنهاجًا، ثمَّ اعتمدوها في الكتاب المقدَّس الذي يَحتوي على العَهْدين؛ القديم والجديد، والذي يخصُّهم منه هو العهد الجديد، الذي عُرِف بـ "الأناجيل الأربعة" (متَّى، ومُرْقص، ولوقا، ويوحنَّا)، وكلُّها بطبيعة الحال محرَّفة. قال - تعالى -: ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ * اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [التوبة: 30 - 31]. وفي تحريفهم أيضًا يقول الغربيون من بَنِي جلدتهم: إنَّ فكْرة البُنوَّة مسْتقاة من الأفلاطونية[14]، وهذا مما يؤكِّد تأثُّرهم بالثقافات الدَّخيلة عليهم، وخلْطها مع الديانة النصرانية. ويقول درابر الأمريكي في كتابه (الدِّين والعلم): دخلَت الوثَنيَّة والشِّرك في النَّصرانية بتأثير المنافقين الَّذين تقلَّدوا وظائف خطيرةً ومناصبَ عاليةً في الدَّولة الرُّومية بِتَظاهرهم بالنصرانية، ولم يكونوا يَحْفُلون بأمْر الدِّين، ولم يُخْلِصوا يومًا من الأيام[15]. وعقائد النصارى على اختلاف كنائسهم إجْمالاً أصْبحت تَقُوم على ثلاثة أُسس هي: • التثليث. • الصَّلب والفداء. • مُحاسبة المَسِيح للنَّاس. ولمَّا أدْخل على النَّصرانية ما ليس منها، وتَمَّ تَحريفها بشكْل كبير كما بيَّنَّا، أدْخلت فيها زيادات خرافيَّة، وجرأة على الذَّات الإلهية بأنْ نسَبوا إليها بنوَّة عيسى - عليه السلام - تعالى الله عمَّا يقولون، ولا زال التَّحريف الذي تجاوز الحدَّ يَطُولهم، ومنها أمورٌ أَلْزموها أنفسَهم ولم تُفْرَض عليهم؛ قال - تعالى -: ﴿ وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ [الحديد: 27]. فلمَّا فرَضوا على أنفسهم ما لا طاقة لهم به وهي "الرَّهبانية"، انْحرفوا وضلُّوا واتَّبعوا شهواتهم؛ لأنَّهم خالفوا الفطْرة التي خلقهم الله - تعالى - عليها، فشاع في أكْثرِهم الفسادُ المستترُ الذي يَعْلمه كثير منهم، والذي ما لبث أنْ ظهَر وانكشف، وهو ما شكَّل صدْمة للملأ؛ إذْ إنَّ الرُّهْبان ينبغي أن يكونوا محلَّ قدْوة لأتْباعهم، وأبْعَدَ الناسِ عن الدنيا التي يَدْعون الناس للزُّهد فيها، فعلى الأقل كان ينبغي أن يكونوا أوَّلَ من يطبِّق هذه المفاهيم التي اخْترعوها من عنْد أنفسهم، لكنَّهم كانوا على العكس من ذلك، يَفْرِضون الأموال الطائلة على المجتمع باسْم الدِّين، بينما في الحقيقة كانوا يكدِّسونها لمصالحهم الذاتية، فكانت "الرهبانية" بمثابة السِّتار الذي يَحْجب عن الناس حقيقتهم وفسادهم من كافَّة النواحي. ثم ما لبثوا أن اخترعوا ما يسمَّى بصكوك الغفْران! فهم لم يَكْتفوا باستِنْزاف أموال الناس لمصالحهم، ولكنِ استنْزفوا عقولَهم وحرَموهم أبسط الأمور المشْروعة وهي التقرُّب إلى ربِّهم بلا وسَائط، بغضِّ النَّظر عن فساد هذه العبادات، فهم قد اسْتغلوا هذا الجانب وأصْدر مَجْمع "لاتيران" سنة 1215 قرارًا بتمَلُّك الكنيسة حقَّ الغفران! زاعمين أنَّ عيسى - عليه السَّلام - قد قلَّد الكنيسة حقَّ الغفران[16]، وقد كان الغفران شفهيًّا، ثم ما لبثوا أَنِ اخترعوا بيع صكوك الغفران التي كانت تُعْطَى بلا مال؛ وذلك رغْبة في زيادة سلطانها، آخذين هذه الخرافة من الوثنيَّة التي كانت تنتشر فيها هذه الأفكار. وبالطَّبْع انكشفت هذه الخدعة للعقلاء، ولم تنطلِ عليهم الحيلة كما انْطلَتْ على البُسطاء المخدوعين بقداسة البابا وقدْرته على مَحْو الذنوب، ولكنْ على الرغم من انكشافها لِكَثيرين فإنها ظلَّتْ في هذه المجتمعات الضالَّة فتْرة طويلة، زادَتْ من خلالها أرباح الرُّهبان وأعوانهم، لكنَّهم لم يُدْرِكوا أنَّ هذه الحيلة قد زَهَّدت الناس في الدِّين وإقبالهم عليه؛ إذْ سبَّبت لهم النُّفور من الدِّين بسبب تصرُّفات أهله واستخدامهم هذا المالِ للمُجون الذي انتشرَتْ أخباره في أوساط مجتمعهم. ثم ما لَبِثت بعد ذلك أن اختَرَعت ما يسمَّى بـ "محاكم التفتيش"، وهي عبارة عن تَحْقيقات واستعلامات عن الإلْحاد، وتفنَّنتْ في تعذيب مَن يجدونه مُخالفًا لتعاليمهم في ساحات الأسواق، وأكْثريةُ المعذَّبين فقراء مَعْدومون لا حيلة لهم، فكانوا يُنْزِلون بهم أشدَّ العذاب؛ حرقًا بالنار حتَّى الموت في أبشع الصُّوَر الإنسانية. كما أنَّ هذه المحاكِمَ الآثمة طالَت المسلمين وعذَّبتْهم بوحشيَّة في الأنْدلس وطردَتْهم نهائيًّا من إسبانيا؛ خوفًا من العلم الذي يَمْلكونه أن يؤثِّر في مجتمعهم الجاهل؛ فيَخرجوا من سَطْوة الإذعان الكامل للكنيسة، وكان الرُّهبان يَضِيقون ذرعًا بكل ما يتَّصل بالعِلْم ولا يَرَون إلاَّ رأْيَهم، ونَصَّبوا أنفسهم للحدِّ من العِلْم. وكل هذه المظاهر الإجرامية البَشِعة من محاكم التفتيش أوجدَتْ في صدور الناس الغِلَّ والحنقَ على الكنيسة، كذلك وقفَت الكنيسةُ وراء الظُّلْم السياسي والاجتماعي والاقتصادي بالمساندة والذَّوْد عنه ومحاربة أيِّ حركة إصلاحية. ومن هنا طَغَت الكنيسة على المجتمع طغيانًا كاملاً، بفعْل السطْوة التي فرَضَتْها والمنَعَة المالية التي حقَّقتْها؛ قال - تعالى -: ﴿ كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ﴾ [العلق: 6 - 7]. قال الإمام ابن كثير - رحمه الله - في تفْسير هذه الآية: يُخْبِر - تعالى - عن الإنسان أنه ذُو فرح وأشَرٍ وبطرٍ وطغْيان، إذا رأى نفْسه قد استغنى وكثر ماله[17]. وكان طغيانها شاملاً (للدِّين، والعقل، والمال، والسياسة، والعلم): أ - الطغيان الدِّيني "الرُّوحي": يَزْعم الرهبان أنَّهم مُحاطُون بالأسرار والغموض التي لها صِلَة خفيَّة بالإله المعْبود، كأسرار التَّثْليث، والعَشَاء الربَّاني، وغيرها من عقائدهم المحرَّفة، فهم مختَلِفون عن بقيَّة البشر، يجب إرضاؤهم وعدم مخالفتهم، ويتصوَّر الناس أنَّ غضَبَهم كما لو أنَّهم أغْضبوا الربَّ، وكذلك رضاهم على السَّواء! حتى إنَّهم - كما تقدَّم - جعَلوا من أنفسهم وُسَطاء بينهم وبين الله! فأصبحت حياةُ الناس مقرونةً بالرُّهبان منذ ولادتهم حتَّى وفاتهم، فهم مَن يعمدهم، ومن يَشْفع لهم، ومن يصلِّي بهم، ولا يُقْبَل منهم عمل إلا بِهِم. وهذا الحال في وجوب الطاعة والإذعان ينطبق على جميع فئاتهم بدءًا بالأبرشة، ثم الأسقف، ثم الكردينال، وصولاً إلى كبيرهم ورئيسهم جميعًا؛ فكان طغيانًا دينيًّا كاملاً. ب - الطغيان العقلي والفكري: إضافةً إلى ما سبق من الطغيان الدِّيني أو الروحي، فإنَّ الكنيسة مارست أيضًا الطغيان الفكري، بأنْ أمَرَت الناس بالأسْرار التي يَدَّعون معرفتها وحْدَهم دون غيرهم، دون مناقشة، واعتَبَرت المُنَاقش لها كافرًا ومُهَرطقًا، وجبَتْ عليه اللعنة الدائمة المؤبَّدة. وبطبيعة الحال كانت تلك الأسرار محيِّرة للأذهان، يَستعصي على العقل فَهْمُها، فضلاً عن تقَبُّلها، كعقيدة التَّثليث التي يدَّعون معرفتهم بأسْرارها، بل ما حَمَلهم على هذا الصنيع - وهو قَمْع أتْباعهم وتكْفيرُهم عند مناقشتها - إلاَّ جهْلُهم بها في الحقيقة؛ لأنَّهم يَخْشون أن ينكشف إفلاسهم المعرفي بما يقولون، فيصدُّ الناس عنهم. وهنا يتَّضح الفَرْق بين تعاليم ديننا ودينهم؛ فالإسْلام يَدْعو إلى التفَكُّر والتعقُّل والاحْتكام إلى الرسول إذا استعْصى عليهم أمْر، كما أنَّ الآيات المحْكَمات يعْلَمها عامَّةُ الناس، بينما المتشابهات لا يعلمها إلاَّ الرَّاسخون في العلم، وهم غير واحد، لا كما يدَّعي الرُّهْبان انحصارَهم في فئتهم دُون غيرهم، كما أنَّ علماء المسْلمين الرَّاسخين لا يدَّعون أنَّ لدَيْهم أسرارًا خاصَّة، فالحمد لله على نعمة الإسلام، المحفوظ من التحريف والدخائل. ج - الطغيان المالي: وقد تقدَّم هذا؛ إذْ كانت أمْلاكُهم تَزْداد يومًا بعد يوم بسبب استغفالهم لمجتمعهم، حتَّى في الوصايا والهِبَات التي كان يكتبها الناس قبل موتِهم فرضَت الكنيسةُ على الناس ألاَّ يَكْتبوا وصاياهم إلاَّ على يد قسِّيس، وإذا كُتِبت الوصية والقسيس حاضر كان لا بدَّ على الواهب من أن يُوصي بشيء للكنيسة؛ حتَّى لا يكون مُجافيًا للذَّوْق! وقد أذَلَّت الكنيسةُ الناسَ باسْم الدِّين، ونهَبَت أموالهم أمام أعينهم وبأتْعابهم اليوميَّة. د- الطغيان السياسي: زعمت الكنيسة أنَّ المسيح - عليه السلام - قد أَعْطى قَيْصَر حِكْمة شرعيَّة الوجود، حين وُضِعت على لسانه هذه الكلمات: "إذًا أَعْطوا ما لقيصر لِقَيصر، وما للهِ لله". يقول أ. محمد قطب[18]: وفسَّرتها عمَليًّا بترْك القانون الروماني يَحْكم العالَم المسيحيَّ بدلاً من شريعة الله. والكنيسة - بِسُلطانِها الطاغي الذي تمارسه - لم تطالب أحدًا - بما فيهم الحكَّام - باتِّباع شريعة الله، على الرغم من أنَّها تَمْلك صلاحية فرْض الشَّريعة بما كانت تَمْلكه من سلطان طاغٍ على قلوب الناس، عامَّتِهم وحُكَّامِهم، بل أخضعَتْ سلطانَها فقط ليكون الناسُ رعايا لِهَواها وجبروتها لا أكثر. فقد قَدَّمت العقيدةَ بلا تشريع مشوَّهة، وادَّعت أنَّه الدِّين الصحيح، وهي بذلك تكون أسْهَمت في السَّماح للرُّومان بحكْم العالَم النصراني، لا بالدِّين الذي أنزل، فظهَرَتْ ألوانُ الظلم السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وفصَلَتْ بين الدِّين والسياسة، ومع مرور الوقت بدأ سلطانها في التَّداعي. هـ - الطغيان العِلْمي: وهو آخر الأمور التي يُتَكلْم عنها في تلك الحقْبة؛ إذْ إنَّه بدأ يتحرَّك في الغرْب النصراني بعد صمْت طويل؛ من الطُّغيان الدِّيني، والفكري، والمالي، والسياسي. وهو أيضًا شَهِد ألوان الطُّغيان، بدءًا بمنْع مناقشة الأسرار المزعومة والتَّفكير فيها، وبَدأ الطغيان العلمي عندما قال العلماء بِكرويَّة الأرض، وأنْها ليست مرْكزَ الكون، فثارت ثائرةُ الكنيسة عليهم، وأحرَقَت البعْضَ وعذَّبَت الآخَر، وهدَّدت بالتعذيب والحرْق في النار إنْ لم يَكُفُّوا عن هذه "الهرطقة"، بحجَّة أنَّ التوراة قالت بأنَّ الأرض مسطَّحة، وهي مركز الكون. ويَرى البعض أنَّهم أخذوها من نظريَّة "بطليموس" التي تَجْعل الأرض مركزَ الكون، وتقول: إنَّ الأجْرام السَّماوية جميعَها تَدُور حولَها، لكنَّ القسِّيس "كوبرنيق" جاء بنظريَّة خلاف نظريتهم وشرَحَ نظريته في كتاب "حركات الأَجْرام السماوية" وطبعها، فانْقلَبوا ضدَّه، وساقوه إلى مَحكمة التفتيش، لكنَّه مات قبل الوصول إليها، ومنَعَت الكنيسةُ تَداولَ هذا الكتاب، ووصفَتْ ما فيه بالوساوس الشيطانية[19]. وهذه الحادثة تُثْبِت لنا أنَّ الكنيسة - مع مَخاوِفِها من الحركة العِلْميَّة وما قد تؤدِّيه من فضْحٍ لحالها - تُصوِّر مدَى الجهل الذي كان قائمًا عليهم وعلى مجتمعهم، حتَّى إنْ تمَسَّكوا بخرافةٍ كتَبُوها أو حرَّفوها من قِبل أنفسهم، ولْنَقُل: إنَّ ذاك أقْصَى ما توصَّلوا إليه، لكنَّهم لم يكونوا يَمْلكون الاسْتعداد للتعلُّم ولا التَّشجيع عليه، بل الثورة ضدَّه، وهذا مُتَصادم مع الفطرة التي فَطَر الله الناس عليها، وهو العِلْم المقْرون مع الدِّين؛ قال - تعالى -: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ [العلق: 1 - 5]. فقد شنَّعَت على مَن يريد العلم ووصفَتْ من طلبه بأنَّه خارج عن الدِّين، وفي ذلك أكبر جناية على العلْم، وجُنَّ جنونُها خشيةَ تأثُّرِ الطلاب المبْتَعثين بالعلم، ولا سيَّما العلم الذي كان لدَى المسْلمين، ويُقَدَّر عدَدُ من عاقبَتْهم المحاكم يبلغ ثلاثمائة ألْف، أُحْرِق منهم اثنان وثلاثون ألفًا أحياء، كان منهم العالِم الطبيعي المعروف "برونو" الذي نقمت الكنيسة من بعض آرائه التي أشدَّها قولُه بتعدُّد العوالم، وحكَمَت عليه بالقتْل، واقترحَتْ بألاَّ تُرَاق قَطْرةٌ من دمه، وكان ذلك بأن يُحرق حيًّا[20]. و"جاليليو" الذي توصَّل إلى صنْع المِنْظار الفلَكِي "التِّلسكوب" والذي أيَّد نظرية مَن سبَقه "كوبرنيق" وقال بِدَوران الأرض، فسِيق إلى محكمة التفتيش، وحَكَم عليه سبعةُ كرادلة بالسجن، وفرَضُوا عليه تلاوةَ مزامير النَّدم السَّبعة مرَّةً كلَّ أسبوع طوال ثلاث سنوات[21]، فأعْلن توبتَه عن قوله لَمَّا عَلِم بمصير مَن سبقه. وبالتالي فإنَّ خلاصة هذا الفساد: • أنَّ فساد رجال الكنيسة ناجِمٌ من التحريف الذي أدخلوه على الدِّين، وتَرْكِهم له وعدم العمل به. • لَمَّا تعرَّضت قوانين رجال الكنيسة التي فرَضُوها على أنفسهم، والتي تخالف الفِطْرة، ظهَرَتْ ألوانُ الانْحراف فيهم، واستغلُّوا مكانتهم، فشرعوا قوانين تُرْضِي مطامعهم تحت قِناع القداسة؛ تلبيسًا وتضليلاً للعامَّة. • أنَّ طغيانهم، شَمل جميع أوجه المجتمع (دينيًّا، وفكريًّا، وسياسيًّا، وماليًّا، وعِلميًّا). ونتيجةً للطغيان الذي سبق من قِبَل الكنيسة على الجماهير، وخصوصًا في الجانب العلْمي، وما ترتَّب عليه من تعذيبٍ ومذابِحَ لمن حاول طَرْق باب العلْم، كلُّ ذلك وَلَّد في نفوسهم حقدًا وحنقًا على رجالات الكنيسة، وبخاصة العقلاء منهم، الذين يرَون تقَدُّم الأمم مِن حولهم، وهم قابعون في سُبَات الجهل، على الرغم من الحقائق التي تتبَدَّى لهم. والحقيقة التي قلَّ مَن يَذْكرها من المؤرِّخين الغرب: أنَّ الفتْح الإسلامي العظيم الذي مِن ثماره انتشارُ الفكْر الإسلامي الرَّاقي في المجتمع الغرْبي، وبخاصَّة الأندلس - تسبَّب في إيقاظ الناس من سُبَاتهم، فأُعجبوا بمناهجه العقليَّة والعِلميَّة القائمة على الحقِّ والأدلَّة في كل جزء من جزئياته الدِّينية والكونية، وحرَّكَهم نحو الاستزادة والانتفاع، بل جذب نورُ الإسلام بعضَ الرُّهبان أنْفُسهم كـ"يوحنَّا" الدمشقي، والراهب الفرنسي "جربرت" الذي انْتُخِب بابا لكنيسة روما عام 999م وغيرهم[22]. فتأثَّروا بتلك الحضارة ونقَلُوها إلى بلادهم، فأنشَؤوا المدارس والمعاهد، ومنها المعاهد التي تدرِّس اللُّغة العربية ومُختلِف العلوم، وتتَلْمذ بعضُ الجماهير على علوم المسلمين، فوجدوا لدَى المسلمين دولة منظَّمة بحكَّام يعاونهم الناس، وتشجِّع على العلم ولا تَظْلم الناس وتستنْزف أموالهم، وشريعةً حاكمة بعدْل وميزان صحيح، لا بِهَوًى ولا بتحريف كما عند علماء دينهم، فما وجدوه كان جديدًا عليهم جملة وتفصيلاً، فانبهروا به، فحَرَّكتهم هذه الحضارة والبيئة العِلْمية من سُبات عميق. فرجَعوا إلى مجتمعاتهم ثائرين، وخصوصًا أنَّهم لم يجدوا ترحيبًا بالعلم بل تعذيبًا وتنديدًا بالقتْل، وقامت قيامة الكنيسة عليهم، فكفَّروهم واستحَلُّوا دماءهم، كما استحلُّوا دماء من سبَقهم، لكنَّ محاولات الكنيسة فشلت، وكَرِه أتْباعُها من الجماهير المتعلمة الدين أيما كراهية، حتى قال ماركس قولته الشهيرة: "الدِّين أفيون الشُّعوب". وهذه الكراهية الشديدة للدِّين ولَّدَت لديهم علمانيَّة بَحْتة لا تَعْترف بالدِّين فيما بَعْد، بل قامت كلُّ علومهم على الإلْحاد، وما كان لِيَحدث هذا لو أنَّ الكنيسة فَتَحت لهم باب العلم، لكنَّهم أسندوا الحوادث إلى الطبيعة بدلاً من الله - تعالى - وانقلبوا على رجال دينهم أيما انقلاب، وانشطرت الكنيسة، ومن ذلك ما فعَله "مارتن لوثر كنج" الذي خرج بالكنيسة البروتستانتية بعد الثورة التي قادها ضدَّ الكنيسة الكاثوليكية (1546) م[23]. وهم مع ذلك - ولا سيَّما الرهبان الذين تأثَّروا بالعلم - على الرغم من انتفاعهم بعلوم المسلمين لم يَنْسَوا حقْدَهم الدَّفين ضدَّ الإسلام والذي وَرَّثُوه لأجيالهم، فأخذوا يشوِّهون صورته، ونسبوه ظلمًا وزورًا إلى الفلسفة الإغريقيَّة، ناسين أو متناسين فضْلَ الإسلام وعلوم المسلمين عليهم، ويُؤْخَذ ذلك على المسْلمين أنفُسِهم؛ إذْ إنَّهم لم يجتهدوا في تبليغ دعوتهم للناس بشكل كافٍ يؤثِّر فيهم؛ لذلك ظلَّ الإسلام مُشَوَّه الصورة عند الغرب. وهذه الثورة العلمية عند الغرب بعد القهر أخذَتْ تعمل على محاصرة رجال الكنيسة وعَزْلهم وطقوسهم عن العلْم والسياسة شيئًا فشيئًا حتى تضاءَلَت. ونهضت أوربَّا بعد صراع طويل مَرِير مع الكنيسة ورجالها الَّذين نَشط المحرِّضون ضدَّهم، ولا سيَّما من اليهود الَّذين وصل بعضهم إلى مرْتبة كردينال، تمامًا كما خطى بولس!. وأَخذ العِلمُ في أوربا يزدهر، وابتدأ بالفلسفة، وتَمَّ فصْل الكنيسة تدريجيًّا عن كل ما يتعلَّق بالمجتمع، ثم تلَتْها العلوم الرياضيَّة والطبيعية التي انفصلت عن الفلسفة وأصبحت مستقلَّة، ومَجَّدت العقل، فانحرفت عن المجال الدِّيني، وطغَتْ لدرجة الإلحاد، وما ينتمي إليه من مذاهب أشهرها الماركسيَّة، وبرَزَت في العلوم المختلفة غير المقرونة بشيءٍ يُنْسَب إلى الدِّين، فأصبحوا "عقولاً بلا هويَّة" إلى وقْتنا الحاضر. فنجَم عن ذلك المشكلاتُ النفسيَّة والانتحار؛ لأنَّه لا قاعدة إيمانيَّة تَضْبطهم، وكذلك التجارب التي يُجْرونها بلا مراعاة لنتائجها وصولاً لنتيجة محدَّدة، وهذا ما يَختلف عند علماء المسلمين السابقين؛ فهم لا يَقُومون بتجارب إلاَّ وهم متأكِّدون أنَّها لا تُحْدِث ضررًا على الإنسان، بينما الغرب يقوم بالتَّجارب بِلا تحَفُّظ، فتظهر الكوارث المدمِّرة كتجارب الطَّاقة النوويَّة والأبحاث البيولوجية، وخصوصًا في محاولة التأثير على الجِينات الوراثية للتحَكُّم فيها، ونرى اليوم الاسْتنساخ وما شاكله من طوامَّ تَضُر بالإنسان. وخلاصة هذا القمع القسري: • شعور الغرب النصراني بالقهر والعيشِ تحْتَ وطْأة الجرائم والتعذيب والحرمان من جميع مقوِّمات الحياة الكريمة - أشْعَرَه بالذُّل، وبالتالي الاتِّجاه نحو مقاومة الفساد. • انْبهار الغرب بالثقافة الإسلاميَّة جعَلَهم يُدْرِكون مدى التخلُّف الذي يعيشونه فكريًّا، فأرادوا نَقْل هذه الصُّوَر المشْرقة إلى مجتمعاتهم. • سطْوَة الكنيسة على العلماء وقَمْعهم وتعذيبهم زاد المجتمع الغربي يقينًا بفساد الكنيسة ورجعيَّتها. • تحقَّقت الثورة والانقلاب على الكنيسة بعد عدَّة محاولات كانت في بدايتها إصلاحيَّة تنويريَّة، لم تتقَبَّلْها الكنيسة، فتوجَّهوا إلى الثورة. • جفاء الكنيسة وقمعها للعلماء ولَّدَ لديهم كرهًا شديدًا لكلِّ ما يتَّصل بالدِّين؛ وبالتالي انتشار الفكر الإلحادي المادي الذي يمجِّد العقْل ويَلْعن الكنيسة. • التخَبُّط الكبير في المفاهيم الذي يعيشه الغرب اليوم، نَتيجتُه انفلاتُهم التامُّ من التعاليم الدينية، وعَزْل الدِّين عن العلم، تمامًا كما كانت الكنيسة تَعْزل العلم عن الدِّين، فبالتالي يظَلُّ هذا المجتمع مَهْما تقدَّم يعيش التخلُّف في الجوانب الروحية والإيمانية التي تَضْبِط له حياتَه، وإنْ تقدَّم في أمور أخرى. ------------------------------ [1] "دراسات في الأديان اليهودية والنصرانية"، د. سعود الخلف، ص 164. [2] "كواشف وزيوف"، د. عبدالرحمن حبنكة، (1/ 11). [3] "الموسوعة الميسَّرة"، ص (502 - 503). [4] انظر: "الموجز في الأديان والمذاهب المعاصرة"، ص (76 - 77). [5] انظر: "الموجز في الأديان والمذاهب المعاصرة"، ص (76 - 77). [6] انظر: "مجموعة الشرع الكَنَسي"، ص43، "تاريخ الكنيسة"، ص49. [7] انظر: "مجموعة الشرع الكنسي"، ص246، "تاريخ الكنيسة"، (3/ 111، 104)، "النصرانية من التوحيد إلى التثليث"، ص 183. [8] انظر: كتاب "تاريخ الفكر المسيحي" (2/ 170)، "تاريخ الكنيسة" جون لويمر (3/ 215). [9] انظر "مجموعة الشرع الكنسي"، ص288، "تاريخ الكنيسة"، جون لويمر (3/ 219)، "النصرانية من التوحيد إلى التثليث". [10] ينظر إلى الجمع بين المتضاد في عقيدتهم. [11] ينظر: "دراسات في الأديان اليهودية والنصرانية"، د. سعود الخلف، ص 259. [12] ينظر: "دراسات في الأديان اليهودية والنصرانية"، د. سعود الخلف، ص 260. [13] ينظر: "أضواء على المسيحية"، ص (112 - 116). [14] فرنسيس يونج، مقالة "أسطورة تجسيد المسيح". [15] انظر: "مذاهب فكرية معاصرة"، الأستاذ محمد قطب، ص 9. [16] "مذاهب فكرية معاصرة"، أ. محمد قطب، ص63. [17] "تفسير ابن كثير"، (8/ 437). [18] في كتاب "مذاهب فكرية معاصرة"، أ. محمد قطب، ص 42. [19] انظر: "كواشف وزُيوف" بتصَرُّف، (1/ 32). [20] "كواشف وزيوف"، (1/ 31). [21] "كواشف وزيوف"، (1/ 32). [22] انظر: "مذاهب فكرية معاصرة"، د. حمود محمد مزروعة. [23] "رحلة التفكير العلمي من التأثُّر إلى التأزُّم"، د. السيد محمد الشاهد، ص 88. |
الجمعة، 6 سبتمبر 2013
النصرانية بين التحريف والتخلف العلمي
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق